خدعة السماوي سحر الوهم أم جريمة منظمة..
رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وصل اليه العالم، ما تزال بعض الظواهر الغامضة والمثيرة للجدل تفرض نفسها على الواقع، ومن بينها «ظاهرة السماوي» – تلك الحيلة التي يرتدي أصحابها قناع السحر والدجل ليغرسوا الخوف في نفوس ضحاياهم، ويسلبوا أموالهم باسم «تحضير الأرواح» أو «فك السحر» أو «جلب الحظ».
في هذا التحقيق، نسلط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة التي اتسع نطاقها في السنوات الأخيرة، رغم كل التحذيرات الأمنية والدينية، مستغلين نقاط الضعف النفسية والاجتماعية لبعض المواطنين. ضحايا الظاهرة لا ينتمون إلى فئة عمرية أو اجتماعية محددة، بل نجد بينهم المثقفين وربات البيوت وحتى بعض كبار التجار، ممن وقعوا في فخ «السماوي» ودفعوا أموالا طائلة تحت تأثير التنويم المغناطيسي أو الخوف أو حتى الأمل الزائد.
ما وراء هذه الحيل ليس مجرد جهل أو سحر، بل شبكات منظمة من المحتالين والدجالين الذين يدرسون ضحاياهم بدقة، ويتقنون فن الإقناع، ويستخدمون أدوات نفسية مدروسة لتضليل العقول، بل وأحيانا يخدرون ضحاياهم بمواد لا تكشف.. فماذا نعني بالسماوي؟ وكيف تتم عملية النصب؟ نماذج لبعض الضحايا تعرضو لنصب عن طريق السماوي؟ ماهو رأي الدين عن الظاهرة؟ وماذا يقول القانون عن مثل هذه الجرائم
مفهوم «السماوي»... جريمة مقنعة بقناع الروحانيات
في الشارع أو بالقرب من محطات القطار أو أمام أبواب المساجد، في لحظة عابرة من الارتباك أو الانشغال قد يجد الإنسان نفسه ضحية لواحدة من أكثر الحيل دهاء في عالم الاحتيال: إنها ظاهرة «السماوي».
«السماوي» ليس مجرد اسم شعبي لمشعوذ أو دجال، بل هو توصيف دقيق لنوع من ما بين الآيات والبخور... تُسرق العقول قبل الجيوب»الاحتيال المنظم، يقوم به أفراد محترفون في التأثير النفسي والإيهام الروحي، حيث يوهمون ضحاياهم بأنهم يمتلكون قوى خارقة أو علوما سماوية، تجعلهم قادرين على كشف الأسرار، أو فك السحر، أو جلب الحظ.
هؤلاء المحتالون لا يستخدمون العنف، بل يتسلحون بمهارات نفسية عالية، وأسلوب خطاب مؤثر، وأحيانا بخور وروائح خاصة، أو كلمات غامضة توهم الضحية بأنها تخضع لـ»جلسة روحانية». والنتيجة؟ الضحية تسلم أموالها أو ذهبها، وهي في حالة من الذهول، وكأنها كانت تحت تأثير سحر حقيقي
تكمن خطورة «السماوي» في أنه لا يهاجم الضحية، بل يخترق وعيها، ويدخل من أبواب الخوف، الحزن، أو الحاجة، مستغلا بذلك هشاشتها النفسية أو جهلها بوسائل الاحتيال الحديثة ومع تكرار الحالات وتنوّع الضحايا، من مختلف الأعمار والمستويات، تظهر الحاجة الملحة إلى نشر الوعي، وتعزيز الثقافة القانونية والدينية، حتى لا يبقى الناس فريسة لهؤلاء الذين يرتدون عباءة «الروحاني»، بينما هم في الحقيقة لصوص محترفون.
ما بين الآيات والبخور... تُسرق العقول قبل الجيوب»
تحت ستار الدين، وبعبارات مطمئنة تبدأ بـ»السلام عليكم» وتنتهي بـ»صدق الله العظيم»، يتحرك «السماوي» بخفة المحتال وبمهارة العارف. لا يحتاج إلى سلاح ولا إلى عنف، يكفيه أن يفتح حديثا باسم الله، ويشعل قليلا من البخور، ليدخل إلى أعمق زوايا النفس البشرية.
هو ليس دجالا تقليديا، بل محتال بواجهة روحانية، يعرف متى يتحدث، وماذا يقول، وكيف يستدرج ضحيته باسم الطمأنينة والشفاء. وفي لحظة غياب عن الوعي الكامل، تحت تأثير الخوف أو الأمل، تُسلّم الجيوب، لكن بعد أن تُسرق العقول.
طرق السماوي في أساليب الاحتيال الروحاني
* التقرب الودي وكسب الثقة
في البداية، يبدأ «السماوي» بتقربه الودي من الضحية، يتحدث بأسلوب بسيط وهادئ، ما يجعل الضحية تشعر بأنه شخص آمن. يستخدم كلمات مثل:
هل تحب أن أساعدك في معرفة المزيد عن حياتك؟» يبدأ بهذا الحوار لتكوين علاقة ثقة مع الضحية قبل أن يتطرق إلى ما هو أخطر.
* تحديد «المشكلة» الشخصية
بمجرد أن يكسب «السماوي» ثقة ضحيته، يبدأ في تحديد المشكلة التي يعاني منها الضحية. قد يذكر موضوعات كالحسد أو السحر أو الأمراض المستعصية التي يمكن أن تكون سببا في تعطل حياة الشخص.
«هناك شخص قريب منك قام بعمل سحر لك، ويجب أن نتعامل مع هذه المشكلة فورا» الضحية تصبح في حالة من القلق، ولا تجرؤ على الشك في كلامه بعد أن بدا له وكأنه يقرأ أفكاره.
* زرع الخوف والتحذير
المرحلة التالية تكون تحفيز الخوف، حيث يبدأ «السماوي» في التهديد بأن الأمور ستزداد سوءًا إذا لم يتم التدخل فورا.
«إذا لم تتم هذه الطقوس اليوم، ستتأزم حياتك بشكل لا يمكن إصلاحه.» هنا يشعر الضحية بأنه مجبر على اتخاذ إجراء سريع، مما يزيد من ضعف قراراته
طلب المال أو الأشياء الثمينة
ثم يبدأ السماوي في مطالبة الضحية بدفع المال أو تسليم الأشياء الثمينة، مثل
«أنت شخص مميز... عندك طاقة كبيرة
يجب أن تقدم هدية روحية كي يتم طرد السحر، ويعود لك السلام.» قد يُقنع الضحية أن الأموال ستُعاد بعد أداء الطقوس، لكن الحقيقة أن السماوي يختفي تماما بعد أخذ ما يريد.
استخدام أدوات «روحانية» مثل البخور والعطور
من أساليب السماوي أن يستخدم البخور أو العطور القوية لخلق تأثير نفسي على الضحية، مثل الرائحة التي قد تشعر الضحية بالدوار أو الخمول.
* الطقوس الروحانية التي تؤدي إلى حالة شبه غيبوبة في عقل الضحية.
* التسلل إلى الوعي المفقود.
العديد من السماويين يستخدمون تقنيات مثل اغماض العينين.. الجلوس في أماكن مظلمة.. التكرار المستمر لعبارات قد تؤدي إلى التنويم المغناطيسي، مما يجعل الضحية أكثر عرضة للتأثر.
الهروب المفاجئ
وبعد أن يأخذ «السماوي» ما يريد، يختفي فجأة. قد يختفي في زحمة أو يغادر المكان فورا، تاركا الضحية في حالة من الصدمة والدهشة، غير قادرة على تفسير ما حدث لها.
ضحايا النصب الروحاني «السماوي».. قصص واقعية بلسان الضحايا
** ذهب العروس... في لمح البصر
فاطمة (28 سنة)، كانت تستعد لزفافها، اشترت كل ما تحتاجه، بما في ذلك مجموعة من المجوهرات الذهبية التي ادخرتها مع والدتها منذ الطفولة. في أحد الأيام، وبينما كانت تتسوق في السوق الشعبي، اقترب منها رجل في الخمسينات، مظهره وقور، يحمل مسبحة ويتكلم بصوت هادئ: « وجهك منور أبنتي ربي غادي يسهل لك واتعيشي فسعادة مع راجلك إلى فكتي سحر لمديور ليك قبل العرس«..
استغربت الفتاة منه كيف يعرف أن زفافي قريب. شعرت فاطمة بالارتباك وتحت وقع الكلمات والقلق، رافقته لبضع دقائق. طلب منها أن تُحضر الذهب لـ»قراءة بعض الآيات عليه»، وطمأنها «أنقرا عليه ابنتي أو نرقيه أونجيبو ليك«.
لكن فاطمة لم تره بعد ذلك أبدا… اختفى ومعه حلمها وكل ما ادخرته.
* رجل سبعيني... ضحية بخور وكلمات مطمئنة
الحاج عبد المجيد (62 سنة)، رجل معروف في منطقته بالطيبة والتدين. بعد صلاة العصر، اقترب منه شاب بملامح هادئة، وقال له: «رأيت فيك نورا غريبا… أنت قريب من الله، لكن في شيء يعطل بركتك». طلب منه الجلوس قليلا لـ»قراءة الفاتحة» ودعاء خاص، وبعد دقائق من ترديد عبارات بنغمة رتيبة واستنشاق بخور خفيف، دخل الحاج عبد المجيد في حالة غريبة، كما يقول: «كنت واعي، لكن مش قادر أتحكم… حسيت إني لازم أسمع كلامه».
أخرج من جيبه كل ما كان يملكه، دون مقاومة، وسلمه للرجل، الذي غادر بلطف… ولم يعد أبدا..
رأي الدين الإسلامي في ظاهرة «السماوي»
حرم الإسلام السحر والشعوذة والدجل وكل ما يتعلق بادّعاء معرفة الغيب. في الحديث وكل ما يتعلق بادعاء معرفة الغيب. في الحديث الصحيح عن النبي ?: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (رواه أحمد وأبو داود).
ادعاء معرفة الغيب كفر فلا يعلم الغيب إلا الله. فالشخص اللي يدعي أنه يعرف أسرارك أو مستقبلك أو رأى شيئا «، فيك، وغالبا يستغل جهل الناس أو خوفهم أو احتياجهم. ويعتبر استغلال الدين من أخطر الجرائم الأخلاقية، لأنه لا يقتصر على خداع الأفراد ماديا أو نفسيا فحسب، بل يضرب في عمق القيم والمبادئ التي جاء بها الدين نفسه. فعندما يستخدم البعض النصوص الدينية أو الرموز المقدسة لتحقيق مصالح شخصية أو للسيطرة على عقول الناس، فإنهم لا يسيئون فقط لأنفسهم، بل يسيئون إلى صورة الدين أمام المجتمع، ويزرعون الشك في قلوب الناس
تجاه ما هو مقدس. هذه الجريمة تزداد خطورتها عندما تمارس باسم «الشفاء»، أو «الحماية»، أو «البركة»، حيث يستغل جهل البسطاء ومعاناتهم لابتزازهم ماديا أو نفسيا. لذلك، يجب أن يقف المجتمع بكل مؤسساته، دينية كانت أو قانونية، في وجه هذه الظاهرة، ويحارب من يحاول أن يتخذ من الدين وسيلة للنصب والدجل.
ارتفاع ظاهرة النصب باسم السماوي حسب تقارير أمنية
في 7 يناير 2025، تمكنت عناصر الشرطة بالمنطقة الإقليمية للأمن بمدينة تمارة، بتنسيق مع نظيرتها بمدينة الرباط، من توقيف ثلاثة أشخاص، بينهم سيدتان، للاشتباه في ارتباطهم بشبكة إجرامية تنشط في ارتكاب جرائم النصب والاحتيال باستخدام أسلوب «السماوي». وقد أسفرت الأبحاث والتحريات عن ضبطهم في حالة تلبس بحيازة سبحة وساعة ومجوهرات يشتبه في كونها تستعمل في تسهيل ارتكاب هذه الجرائم، بالإضافة إلى مبلغ مالي من متحصلات هذه الأفعال الإجرامية.
كما تم توقيف أفراد آخرين في الرباط وفي نفس اليوم، تم توقيف ثلاثة مساهمين آخرين يشتبه في ارتباطهم بهذه الشبكة الإجرامية على مقربة من إحدى المقابر بالشريط الساحلي بمدينة الرباط، حيث تم ضبطهم في حالة تلبس بحيازة سبحة وساعة ومجوهرات يشتبه في كونها تستعمل في تسهيل ارتكاب هذا النشاط الإجرامي، علاوة على مبلغ مالي من متحصلات ارتكاب هذه الأفعال الإجرامية.
التحليل السوسيولوجي لظاهرة السماوي
ينظر علماء الاجتماع إلى ظاهرة «السماوي» على أنها جزء من الديناميات الاجتماعية والثقافية التي تؤثر في المجتمعات، خاصة في المناطق التي تكثر فيها الخرافات والتقاليد الشعبية.
• التقاليد الثقافية والخرافات:
في العديد من المجتمعات، لا تزال الخرافات والمعتقدات الشعبية تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الفكر الجماعي. في بعض الحالات، يكون «السماوي» جزءًا من تراث ثقافي راسخ ويُعتبر وسيلة للحل السريع للمشاكل أو تحقيق الرغبات.
• الاستغلال الاجتماعي:
بعض الأشخاص يستغلون هذه المعتقدات لزيادة سلطتهم الاقتصادية والاجتماعية، مما يعزز ظاهرة النصب. يمكن أن يكون المتورطون في هذه الأنشطة من الطبقات الاجتماعية العليا الذين يستخدمون هذه الأساليب لاستغلال الطبقات الاجتماعية الضعيفة، مما يعمق التفاوت الطبقي.
• الانتشار في المجتمعات المتأثرة بالفقر:
في المجتمعات التي تعاني من الفقر والعوز، تصبح الخرافات والشعوذة وسيلة للهروب من الواقع. الأفراد الذين لا يملكون القدرة على تغيير وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي قد يتجهون إلى هذه الحلول الظرفية، مما يؤدي إلى استغلالهم من قبل المشعوذين.
