كيف يمكن تفسير معنى الصدمة النفسية؟
تعتبر الصدمة النفسية أو تراوما (trauma) من بين الظواهر النفسية القاسية والصعبة في حياة الذين عاشوها، ولذا فهي تدرس وتبحث بشكل واف وعميق في العديد من الجامعات والمؤسسات التي تعنى بالأمراض النفسية محليا وعالميا. إذ نرى العديد من المراكز المؤهلة لعلاج الصدمة النفسية الناتجة عن الحروب والكوارث الطبيعية وحوادث صادمة أخرى كالاعتداء الجنسي مثلا. والمعنى الأصلي للكلمة اليونانية “تراوما” (Trauma) هو جرح، أو ضرر يلحق بأنسجة الجسم. واليوم نستعمل الكلمة بمعنى “صدمة نفسية” لوصف وضع يجرب فيه الشخص حدثا صعبا جرح نفسه.
هل جميع الناس معرضون للإصابة بـ “التراوما”؟
تتفاوت ردود فعل الأشخاص للحوادث الصادمة، فليس بالضرورة أن يعاني كل من تعرض لحدث صادم، لعوارض ما بعد الصدمة، أو اضطرابات أخرى، إذ ترتبط هذه الردود بقدرة الفرد على مواجهة الحدث. وتتأثر هذه القدرة بالوسائل الدفاعية المختلفة لديه، كتكوينه النفسي وثقافته ومعتقداته، وهي الأمور التي ننشأ عليها منذ الولادة، وتتطور خلال سيرورة حياتنا. وتتأثر قدرة الفرد أيضا بمدى الدعم الذي يتلقاه من المحيطين به. وبناء على هذا، فقد يعاني أشخاص من صدمة نفسية نتيجة حادث طرق، بينما يواجه آخرون الحدث ويتأقلمون معه. ويتعافى بشكل عام معظم الذين يتعرضون لحدث صادم بعد بضعة أشهر دون حاجة ملحة للعلاج النفسي.
وتجدر الإشارة أيضا، إلى أن الصدمة النفسية لا تعكس بالضرورة رد فعل لتعرض مباشر للحدث، بل قد تكون نتيجة لتعرض غير مباشر، كأن تنتج عن إصابة شخص من العائلة أو صديق، أو مشاهدة حدث معين على التلفاز، أو سماع خبر معين.
ما هي العوامل التي تجعل الحدث صادما؟
هنالك عاملان قد يجعلان الحدث صادما: الأول هو أن يكون الحدث تهديدا بالموت أو إصابة خطيرة تلحق بنا أو بشخص آخر. أما الثاني فهو شعور قوي بالخوف والعجز والرعب، وعند الأطفال تظهر عوارض سلوكية مشوشة أيضا أو عصبية.
ما هي أعراض ما بعد الصدمة النفسية ؟
مؤشرات أو أعراض ما بعد الصدمة النفسية كثيرة، نذكر منها:
أولا، إعادة وتكرار للحدث: فالمصابة بالصدمة النفسية تعاني من إعادة وتكرار لمشهد الحدث الصادم بأشكال مختلفة، كاستذكار صور وأفكار متعلقة بالحدث، أو كوابيس متكررة، أو الشعور والتصرف وكأن الحدث يتكرر مرة أخرى، أي تعيش المصابة الحدث من جديد، أو تواجه أزمة نفسية شديدة وتفاعلا جسديا عند تعرضها لعلامات أو إشارات تذكرها بالحدث الصادم، فمثلا إذا تم الاعتداء الجنسي عليها في يوم ماطر وبارد، قد تنفعل الفتاة وتسترجع الحدث في الأيام الماطرة والباردة، أو عند اقتراب الشاب لخطيبته التي تعرضت لاعتداء جنسي فإنها قد تنفر وتبتعد. وعادة تكون الاستجابات الجسدية مبالغا بها مثل التعرق الزائد أو زيادة ضغط الدم أو نبض القلب والتوتر الشديد، وهو ما يسمى بالهلع.
ثانيا، الامتناع أو تجنب المحفزات المرتبطة بالصدمة النفسية مثل: تجنب الأفكار، المحادثات أو المشاعر المتصلة بالصدمة، وكذلك الأماكن والفعاليات والأشخاص الذي يذكرون المصابة بها. وفقدان الاهتمام بالفعاليات التي كانت تعتبرها المصابة مسلية. والشعور بالغربة والنفور من الآخرين. وصعوبة في الإحساس والتعبير عن عاطفة ايجابية كالسعادة والحب. وانعدام الرغبة في التعامل مع المستقبل أو الحديث عنه. والانفصال عن تفاصيل الحدث ونسيان أجزاء منه ويدعى هذا بـ “الانسلاخ – Dissociative”.
ثالثا: ظهور عوارض مفرطة، مثل: مشاكل في النوم. أو ضيق الصدر ونوبات الغضب. أو صعوبة في التركيز والدراسة. أو شعور دائم بالتأهب والاستنفار. أو رد فعل مبالغ فيه على الضوضاء العالية والحركات المفاجئة.
كيف يمكن تشخيص الحالة والتأكد منها؟
إن العامل الزمني مهم لتشخيص ما إذا كان الفرد يعاني من عوارض ما بعد الصدمة، ويحدد الطبيب النفسي المعالج المدة الزمنية القصوى، ففي حال ظهور العوارض التي ذكرنا لفترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، يتم تشخيص المريض بأنه يعاني من صدمة نفسية شديدة، وفي حال استمرار العوارض لأكثر من ثلاثة أشهر تعتبر الصدمة مزمنة. أما في حال ظهور العوارض بعد ستة أشهر أو أكثر من الركود، فيسمى هذا النوع بالشكل المتأخر للصدمة، وهذه الحالة شائعة في حالات الاغتصاب المتكررة كسفاح القربى.
بالإضافة إلى الاعتداءات المسببة للصدمة، يبقى الاغتصاب أشد اعتداء يترك على الضحية آثارا بالغة. هل هناك تأييد علمي لهذه الفكرة؟
هذا صحيح، وتشير الأبحاث والدراسات إلى أن الاضطرابات النفسية واحتمال تعرض الفرد لعوارض ما بعد الصدمة، تكون حادة ودائمة أكثر إذا كان مسبب الحدث الصادم هو الإنسان، كالاغتصاب أو التعذيب، مقارنة بالكوارث الطبيعية كالزلزال، كما وتكون الصدمة أكبر في حالة حدوثها في مجتمعات نامية. والاعتداءات الجنسية هي جرائم عنف يستعمل خلالها المعتدي سلوكه الجنسي كوسيلة لفرض سيطرته وتسلطه على الضحية دون أخذ موافقتها. ويشمل السلوك الجنسي تصرفات مختلفة كاستعمال الكلمات والتعليقات الجنسية، عرض الأعضاء الجنسية، استراق النظر، الملاحقة الجنسية أو اللمس، ومحاولة الاغتصاب أو الاغتصاب.
ويفوق ضرر الصدمة النفسية الناتجة عن تحرش أحد الأقارب بكثير الضرر الذي يحدث من الغرباء، كونه يأتي ممن يتوقع منهم الرعاية والحماية والمحافظة، لذلك فحين يحدث تهتز معه الكثير من الثوابت وتنهار الكثير من الدعائم الأسرية والاجتماعية وتضع الضحية في حالة حيرة واضطراب، قد يؤدي ذلك إلى الموت المؤقت للعاطفة والشعور كوسيلة دفاعية يلجأ إليها الأشخاص لاستعادة السلام الداخلي، ولكنها وسيلة سلبية ومدمرة لأنها تقتل معنى الحياة والأمل.
هل للمحيط دور في مساعدة الضحية على تجاوز الصدمة النفسية؟
تشير الأبحاث إلى الأهمية القصوى للبيئة الداعمة والمساندة في مساعدة الفرد للتأقلم مع الحدث الصادم، وعند نظرنا إلى مجتمعنا المحافظ نرى أن الموروث الثقافي وبنية المجتمع لا يشكلان عاملَين داعمين للفتاة التي تتعرض للاعتداء الجنسي، بل قد يزيدان الوضع صعوبة أو قد يزيدان من شدة الصدمة، فبناء على الثقافة السائدة في المجتمع قد تذنب المرأة ويبرر سلوك المعتدي، وهذا يزيد من تفاقم الاضطرابات وتحويلها إلى أمراض مزمنة وقد تظهر عوارض ثانوية أخرى تترافق مع العوارض الأولية كالاكتئاب والقلق المزمن. ثم إن محاولة الضحية الحفاظ على سر الاعتداء يزيد من تفاقم العوارض، وقد تظهر حالة من التفكك في التفكير أو الشخصية أو ما يسمى بالانسلاخ Dissociative Disorder، وهو عبارة عن نسيان أجزاء هامة من الحدث أو الشعور بالانسلاخ عن الذات. وباختصار فهو تشوش في الذاكرة والوعي الذاتي والشعور بالمكان والزمان.