“حلمنا بأن يصبح المغرب مستقلا، من أجل ذلك غامرنا بحياتنا فتحقق الحلم. هل أنصفنا بعد ذلك ؟ لا يهم”، الفنان عبد الجبار الوزير.
يعيش الفنان عبد الجبار الوزير، خلال هذه الأيام، وضعية صحية جد حرجة تبعث على الحزن والأسى. وبهذه المناسبة، صرح لنا ابنه أحمد، الذي يعتبر الناطق الرسمي باسمه بعد محنة المرض التي ألمت به، أن أباه يعاني من مرض السكري الذي هو داء العصر، والذي تم اكتشاف إصابته به سنة 2004 عن طريق الصدفة، بواسطة أحد أبناء الحي هو الدكتور منير بازي، حيث اعترته دوخة مفاجئة، أجريت له على إثرها مجموعة من التحليلات، تبين من خلالها أن نسبة السكر بالدم لديه تصل إلى حوالي 05 غرام، ومنذ ذلك التاريخ وهو يعاني في صمت، لأنه متعود على السرية بحكم تربيته الوطنية في صفوف المقاومة.
وأضاف أن والده ظل يعاني من هذا المرض الذي يلاحقه مثل ظله، حيث ولج المستشفى بسببه عدة مرات في وضعية صحية صعبة، حوالي سنوات: 2004 و2008 و2011. وشكلت وفاة الوالدة، التي قضت معه 57 سنة من العشرة الزوجية، صدمة كبيرة ضاعفت من المرض لديه. فخلال الخمسة أشهر الأخيرة التي تفصل عن تاريخ وفاتها، دخل المصحة ثلاث مرات: بعد خمسة أيام من وفاتها، وإثر أسبوع من خروجه المصحة، ثم بعد حوالي شهر ونصف من ذلك، مما أدى إلى بتر رجله اليسرى.
وأكد أن وفاة الوالدة تشكل بداية النهاية للوالد، حيث كانت الفقيدة إنسانة فنانة وسنده في الحياة، تسافر معه وتوفر له جميع المتطلبات التي يحتاجها، لكن بفقدانها لم يعد يحلو له أي شيء. فالفنان مثل الوردة التي إذا انقطع مصدر تغذيتها تذبل، والوالدة كانت هي تلك الروح التي يتغذى منها معنويا.
وعن التغطية الصحية التي يستفيد منها الوالد، أوضح أن أباه لا يتوفر على أية تغطية صحية، اللهم تلك التي توفرها له ، في السنين الأخيرة، المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بصفته من قدماء المقاومين. كما أنه يتوفر على بطاقة الفنان التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فهي لا تساعد الفنان على الركوب في الطائرة ولا في القطار أو الحافلة، ولا حتى الدخول إلى الحمام الأسبوعي، مبرزا أن الفنان عبد الجبار الوزير يعتبر شيخ الفنانين المغاربة، فهو أقدم فنان على الصعيد الوطني، حيث مارس التمثيل لمدة 64 سنة، في وقت كان فيه التمثيل صعبا، تحصل منه الدولة ضريبة، أما الآن، فأصبحت الدولة تعطي دعما للفرق المسرحية، لكن لا ترقى العروض المقدمة في هذا المجال إلى ما كانت عليه في الماضي.
وبخصوص نوع الدعم الذي تلقاه الوالد، أكد أنه تلقى دعما معنويا من جميع المستويات، ومن مختلف طبقات الشعب المغربي، إلا أنه لم يحصل قط على أي دعم مادي من أية جهة كانت، سواء مسؤولة عن الشأن الفني أو الجماعي أو الإداري، مشيرا أن الوالد، في هذه المحنة التي ألمت به، يعتمد على إمكانياته المحدودة التي استنزفت، وعلى موارد أبنائه الذين لا يدخرون وسعا من أجل توفير ما يحتاجه.
ثم أبان أن عماد فناني المغرب هو الجمهور. فعندما يمر الفنان بمحنة ما، وعلى الخصوص إذا كانت صحية لا يجد بجانبه إلا الجمهور ومحبيه. أما المسؤولين عن الشأن الثقافي، فلا حول ولا قوة إلا بالله! فكم من فنان يموت في الظل. وكما يبدو للعيان، فإن والدي يذوب شيئا فشيئا. والغريب في الأمر أن بعض الجهات لا تقوم بتكريم الفنان في حياته، وإنما تنتظر حتى يرحل، فتهرول للتطبيل وإطلاق اسمه على شارع أو مسرح ما (! ؟)، وكما يقال : “اللي بغا يديه الطبيب، يديه المريض”. أما إذا عرجت الروح إلى بارئها، فهو كفيل بها.
وفيما يتعلق بسيرة والده التي ألفها الباحث والصحفي عبد الصمد الكباص، والموسومة بعنوان:“حياة في ثلاث طلقات ونكتة وحلم كبير”، أسر أن أحسن ما قام به هذا الصحفي، الذي يحترمه ويقدره كثيرا، هو أنه جالس والده لمدة طويلة تصل إلى 11 شهرا تقريبا تارة في صالون منزل الأسرة، وتارة أخرى في حديقة المنزل، وتمكن، في آخر المطاف، من إخراج هذا الكتاب الذي قدم فيه نبذة عن المحطات البارزة في حياة الوالد، بدءا بالصناعة التقليدية، ومرورا بالرياضة والمقاومة، وانتهاء بالفن، لكن بقيت بعض الجوانب خفية في هذه السيرة، لم تتطرق إليها، مثل حياته الشخصية والاجتماعية.
وذات مرة، قال الفنان عبد الجبار الوزير في حق ابنه أحمد، صاحب التصريحات هاته: “من بين كل أبنائي، أحمد هو الأكثر انفتاحا على عالم المسرح، تشرب ثقافته بحكم احتكاكه واهتمامه بالأسئلة الحارقة للفن. يرجع ذلك إلى أيام طفولته، حيث كنت أصحبه معي للتداريب، فعايش عن قرب التفاصيل الصغيرة التي تجتمع لتصنع الفرجة”.
ويذكر أن الفنان عبد الجبار الوزير، قد ولد سنة 1932 بدرب الكزا بمراكش. وكان في طفولته شقيا جدا، مما دفع به ليغادر صفوف الدراسة مبكرا، ويعانق عالم الحرفيين، حيث عمل “شكايريا” (صانع الحقائب التقليدية) و”شراطا” (صانع الحبال) ودباغا (معالج الجلود ومصلحها). وفي سن 15 سنة، التحق بفريق الكوكب المراكشي لكرة القدم إبان تأسيسه سنة 1947، حيث لعب في مركز حراسة المرمى بفريق الفتيان.
كما يعتبر هذا الفنان من كبار المقاومين ضمن خلية حمان الفطواكي، الذين دافعوا باستماتة عن حرية المغرب، حيث حكم بالإعدام خلال فترة الحماية الفرنسية. وفي سجن لعلو بالرباط، تعلم قواعد الكتابة والقراءة وعلوم اللغة والفقه والاجتماعيات من مقاومين مغاربة كانوا معتقلين معه في ذات الزنزانة مثل العلامة المختار السوسي، ليلتحق بعد ذلك بالقوات المساعدة، قبل أن يتفرغ نهائيا للتمثيل والفن سنة 1961.
وكان أول عمل مسرحي شارك فيه الفنان عبد الجبار الوزير هو مسرحية “الفاطمي والضاوية” سنة 1951، رفقة الفنان الراحل محمد بلقاس، التي عرضت في عدة مدن مغربية، ليشارك، بعد ذلك، في العديد من المسرحيات والمسلسلات والأفلام التي لاقت ترحيبا وإعجابا من مختلف طبقات الشعب المغربي، من قبيل “الحراز”، و”سيدي قدور العلمي” و”حلاق درب الفقراء”، و”دار الورثة”، و”ولد مو”.
وفي سنة 1957، قدم هذا الفنان المقتدر، ضمن فرقة الأطلس، عرضا مسرحيا مقتبسا من مسرحية “الفاطمي والضاوية” أمام أنظار المغفور له الملك محمد الخامس بقصر الباهية بمراكش. وحضر هذا العرض، أيضا، ولي العهد، آنذاك، مولاي الحسن والأمير مولاي عبد الله، إضافة إلى مجموعة من أعيان الدولة. وعن علاقته بالمرحوم الملك الحسن الثاني، فقد كانت له معه صلات فنية وثيقة، حيث عرض أمامه، ضمن فرقة الوفاء المراكشية، عدة عروض كانت دائما تنال إعجابه.
ومن النصوص المسرحية التي ألفها هذا الفنان: “دردبة عند الغشيم” و”عطيل بين الحلقة والأوطيل” والمسلسل الإذاعي “كنوز الفضايل”. ومن مجموع المسرحيات التي أداها طيلة مساره الفني الحافل بالعطاء، تبقى مسرحيتا “سيدي قدور العلمي” و”الحراز” هما الأقرب إلى قلبه والأكثر حضورا في ذاكرته. والاسم الحقيقي لهذا الفنان هو عبد الجبار بلوزير، وليس عبد الجبار الوزير، الذي أطلقه عليه الصحفي والفنان إدريس العلام الملقب ب”باحمدون”، خلال إحدى الجولات المسرحية في ستينيات القرن الماضي.
وفي 15 يونيو 1957، تزوج الفنان عبد الجبار الوزير من رقية القرشي ابنة أحد أصدقاء أبيه بحي الزاوية العباسية بمراكش، وأحيى حفل زفافه جوق، رفيع المستوى، يترأسه بعض رموز الموسيقى المغربية مثل عبد الله عصامي والعربي الكوكبي، ورزق من هذه الزيجة أربعة أبناء، هم : سعاد، أحمد، محمد وعبد الحكيم. ومن غريب الصدف أن زوجته قد توفيت يوم 15 يونيو 2014، في ذات اليوم الذي يصادف تاريخ زواجه منها !
إن عبد الجبار الوزير، الآن، طريح الفراش، إنه يعاني ولا يئن، فهو في شموخه مثل جبال الأطلس ونخيل مراكش الذي لا ينبطح رغم عوادي الزمن، والذي يبقى صامدا، يتسلل، بثقة وتؤدة، عبر القرون، وهو، أيضا، مثل نيزك يضئ عتمة سماء مراكش، وأحجية من أحاجي ساحة جامع الفنا السريالية، التي تمتح من معين مخيالنا الشعبي الدافق، وتحول وحشتنا إلى ألفة، ورتابة معيشنا اليومي إلى فرجة تنبهر معها الأحاسيس. وما أحوج هذا الفنان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى من يلتفت إليه ويدعمه ماديا، لعله يضمد جراحه شيئا ما، ويجبر جناحه الكسير، ويعيد البسمة إلى محياه الذي طالما أمتعنا، وأدخل البهجة إلى قلوبنا لعقود من الزمن. الفنان عبد الجبار الوزير، يا أيقونة المسرح المغربي، إنك لست وحدك في محنة المرض، إننا جميعا معك، فكلك وطن !