حينما يجتمع الإخراج المسرحي والتمثيل والتأليف فإننا نتحدث عن الفنان سعيد غزالة. هو ابن مدينة مكناس، اختار الفن بحب وتفاني واختاره المسرح عن طريق الكتابة، حيث كتب أول نص مسرحي له عن القضية الفلسطينية بعنوان «نداء». ومن هنا عانق خشبة المسرح وأطلق العنان لإبداعه في الإخراج والتأليف المسرحي، إذ قام بتأليف أكثر من ثلاثين نص مسرحي وإخراج قرابة العشرة أعمال ، منها مسرحية « لمراية»، «تانوغيت» ، المجلي»، «الباباوان» ، «حكاية آخر امرأة عادية»…. الخ. كما مثل في العديد من الأفلام والمسلسلات المغربية منها: « ساعة في الجحيم»، «الأخطبوط» ، «التائه» ، «راس العين»….وغيرها. ألف مسرحيات في شكل مونودرامات تختلف من حيث الموضوع والاختيار، وتعكس بين دفتيها تجربته العميقة في المسرح. وهما تحت عنوان «دمى شكسبير» و»قلنديا». بالإضافة إلى مواهبه المتعددة من إخراج مسرحي وتأليف وتمثيل، فهو عضو بالنقابة المغربية لمحترفي المسرح. ورئيس جمعية أفلون للفنون الاستعراضية، ورئيس جمعية الصداقة لمسرح الطفل، ورئيس مؤسس لجمعية الكشف المنير.
الفنان سعيد غزالة له مسيرة فنية حافلة وغنية تفرض نفسها على الساحة بقوة. وقد كان لنا معه هذا الحوار التالي:
المسرح وسعيد غزالة أيهما اختار الآخر؟
كنت مولعا بالمطالعة ومدمنا على الكتابة، وكان أول فعل قمت به لملامستي المسرح محاولات في الابتدائي للتمثيل لكني لم أعطي الأمر أهمية واخترت القراءة والكتابة في كل ضروبها ومنها المسرح… لكني لم أختره عن رغبة بل سيق إلي عبر صديق في دراسة حكى لي عن ولعه بالمسرح وطلب مني أن ننجز بالمعهد الذي كنا ندرس فيه عملا مسرحيا، فتطوعت بكتابة أول نص مسرحي لي باللغة العربية تحت عنوان “نداء“ حول القضية الفلسطينية. ومن ساعتها اختارني المسرح عن طريق الكتابة أكثر مما اختياري له بصيغة أخرى (تمثيل/ إخراج/…) لهذا أعتبر المسرح سحر يبحث عن سَحَرته.
حسب قولك “المسرح هو التغيير” أي تغيير تقصد وما حدود هذا التغيير الذي شملك كفنان؟
المسرح هو فعل المكاشفة والمرآة العاكسة لحياة أخرى ربما هي الوجه الحقيقي لحياة ملتبسة تحكمها الأهواء والمصالح والتعب اليومي. ولأنه كذلك فهو فعل تغيير أو المساهمة في هذا الفعل بطرح رؤى متجددة أو تشريح عيوب مجتمعية تنخر في كيان الإنسان. المسرح هو فعل المساءلة والتشضي، فعل المراهنة على واقع أجمل أصفى ومتوازن.. المسرح هذا اللانهائي الحابل بالحلول والآخر الكامل لا يمكن أن يكون إلا آلة عملاقة للتغيير إذا ما رخص له بالكينونة الحقيقية. هذا يدفعني أن أسقط علي المعنى، لأنه شملني ليقنعني باختياره كمصدر للعيش وللحياة. كمصدر للكينونة والتقمص. أن أكون أنا الذي اخترت أن أكونه ويكونني.
دمى شكسبير وقلنديا وحكاية آخر امرأة عادية أيمكن اعتبارهم روايات مسرحي أم هي مسرحيات مؤلف؟
هي مسرحيات في شكل مونودرامات تختلف من حيث الموضوع والاختيار. “دمى شكسبير“ المونودراما التي قدم لها الدكتور عبد الكريم برشيد هي في الكتابة الكلاسيكية برؤية ميتافيزيقية تسائل الكتابة الرصينة وتركب الأسلوب المشبع بالحكمة والترصيص اللغوي المحكم. فلا يمكن أن تكون كاتبا على شكسبير لكن من الممكن أن تكون مسائلا إياه من خلاله ومن قوة كتاباته وتركب بذلك مغامرة مقارعته الأحداث وإعادة تناولها بشكل تجديدي وإحيائي وأرجو أن يحال القارئ على مقدمة الدكتور برشيد في الموقع المرفق أسفله. أما مونودراما “قلنديا“ فهي عمل قديم جديد حول القضية الخالدة والأرض التي لن تقبل بغير أهلها في حوار طويل حول لا جدوى استمرار هذا العبث الكوني حول أرض المقدس بلغة شاعرية فيها الكثير من اللعب بالكلام والإشارات والتحولات الوجدانية لطالب الحق أو المدافعين عليه. قدم لها المُراجع والشاعر المغربي رشيد الياقوتي بكل شاعرية! أما “حكاية آخر امرأة عادية“ فهي أربعة نصوص في المونودراما بصيغة المؤنث تتعرض لكل ما تعانيه المرأة العربية والمغربية بالخصوص من تناقضات وترهلات اجتماعية وسوء تموضعها داخل مجتمعات ذكورية باستفزاز. هي كتابات مسرحية بحس مسرحي يكتنف حبكته من مخزون روائي لكن لا يغلب المستفيض عند الروائي على الكاتب المسرحي الدقيق. لكن يبقى الكاتب حاضرا يفرق بين الضربين في الحياكة والصياغات. لأنه محكوم بالتمييز ويعطي للخيال فترات استراحات ليجدد رغباته في التدفق أو الاختصار.
قمت بتأليف وإخراج العديد من المسرحيات، فما هو العمل المسرحي الأقرب إلى قلبك؟
أكثر من ثلاثين عملا مسرحي كتابة لم ينل منها سوى 10 أعمال حضها للخروج إلى النور، البعض بدعم من الدولة والبعض بإنتاج ذاتي وكلها أعمال قريبة إلى قلبي لكن أكثرها مسرحية “تفويجة“ هذا العمل الذي كان من إنتاج ذاتي شخصه طلبة متدربين عندي سنة 2013 وقد كان من أنجح الأعمال المسرحية عندي حيث كان أداء الممثلات فوق الخشبة باهرا وواعدا وفي مقام الاحتراف حيث كانت أول طلعة للممثلات على خشبة المسرح بعمل مسرحي متكامل. الحمد لله كل الممثلات صرن محترفات الآن وهذا أمر يثلج القلب.
في ظل مواهبك المتعددة من تأليف وإخراج وتشخيص أين تجد نفسك أكثر؟
أجدني في التأليف أكثر كما سبق وقلت أن المسرح اختارني من خلال مغازلة أحورته وعوالم مشاهده وتراكيبه وأنفاسه، وأحاول في الإخراج فقط حماية نصوصي من التلف، قد يُعتبر هذا الرأي أنانية مني، لأن الكثير من المخرجين وليس كلهم يُفرغون مجهود المؤلف من محتواه ويحاولون الركوب على أفكار المؤلفين لتمرير أفكار غالبيتها تكون بعيدة عن النص الأصلي. أما التشخيص فلا أتحمس له كثيرا لكني أجدني في تكوين الممثل وتدريبهم على فهم لعبة التشخيص وضروبها.
قمت بالتمثيل في العديد من الأفلام (…) فما الذي أضافه المبدع المسرحي بداخلك؟ وما الأدوار التي تطمح إليها مستقبلا؟
هي أدوار قليلة، لأنه بطبيعتي أتهيب من التشخيص أو دخول ميدانه وأكتفي باختياراتي كمؤلف مسرحي ومخرج وهي أدوار لم أسعى لها فقط بدافع التجربة أو الصدفة. كنت نسبيا مقنعا في أدائي فيها، لكن يبق المبدع المسرحي فيّ يرفض هذا الاختيار ولا أعلم هل هو صحيح أم ضرب من الجنون. لا أرفض الأدوار لكني لا أسعى لها. كل ما أطمح له مستقبلا أن أمنح الفرصة لأداء دور تاريخي لشخصية مغربية لم تكتشف بعد ولم يلقى لها البال بكتابة رصينة وإخراج يحترم تقنياته.
ما الذي يدفع الفنان سعيد غزالة لتقديم أفضل ما لديه؟
ككل فنان اختار حرفته بحب وتفاني وعشق الدور والكتابة وتشبع بقدسية الفن والدور الكبير الذي يلعبه لتقدم البلاد. وعندما نطمح لتقديم أفضل ما يمكننا هو رغبة في إقناع ذواتنا بجدوى الاختيار والتميز داخل مجتمع ينتظر منا الأفضل. إنها مسؤولية إنسانية قبل أن تكون حاجة معيشية أو ترفية ورغبة في إقناع أنفسنا بالحق في أن نكون مبدعين في واقع يسحل الفنان ويصغر من وجوده.
المسرح ليس عروضا للفرجة فقط، بل هو يختزل في عمقه رسالات نبيلة ويعالج قضايا مختلفة، فما هي الرسائل التي تسعى إلى إيصالها وما القضايا التي تتبناها؟
المسرح قبل أن يكون فرجة تقدم هو فكرة تتمخض في رحم الكاتب الإبداعي. وهي تضافر جهود الكثير من المبدعين والعاملين والمصممين لصناعة تلك الفرجة. وحتى يتسنى لهذه الفرجة أن تؤدي أغراضها فإنها تأخذ شرعيتها من وجاهتها فكرة وتأليف وإخراجا وتشخيصا وتتشفع بحمولة تربوية وتعليمية للمساهمة في التهذيب أو طرح الأسئلة الحارقة لمجتمع يطمح للحرية. لهذا كل فرجة مسرحية حقيقية تحبل برسائل وقضايا راهنية أو تسوق حكايا لها حمولتها الفكرية والتنويعية التي تخلخل التفكير الجمعي لمجتمع متزن ينشد السعادة. وبناء على ما قلت فإني من داخل هذا أسعى بدوري في بناء صروح السعادة التي ران عليها الظلم والتحقير والاستغلال والاحتكار. ككل مثقف أتبنى قضايا إنسانية كونية صرفة تنتصر للحق والعدل والمساواة.
بين ثنائية التقليد والتجديد في الإخراج المسرحي، أين تكمن رؤية الإخراج لديك؟
الإخراج إبداع وصناعة، وليس توجيهات سينيكية وتموضعات على الخشبة وما دون ذلك. هو الفعل الخارج من قوة الحدث أو الحوار أو الشخصية لتحقيق تحركات في فضاء مختار بعناية لاستكمال الصورة المبدعة عند المؤلف وتنزيله بوسائل مبتكرة محينة تستجيب لتطلعات جمهور حقيقي متعطش للفرجة المغيرة. وليس في الإخراج تقليد بل نقول نقل. أما التجديد فهو الإبداع بوسائل تحيينية لكنها لا تخرج على تقديس الخشبة كمنطلق حياة. وأنا من هؤلاء أسعى دائما لاحترام الفضاء العام للفرجة دون إهمال أي جانب من جوانبه مع الحرص على طرح كل الأسئلة الممكنة لصناعة فرجة متكاملة. وهذا مجهود يتطلب مني قوة وصبرا وكثير من الوقت لخلق تلك المتعة المفتقدة في المسرح المغربي الذي أنهكه التقليد والنقل والاقتباسات البئيسة.
المسرح حصن لا ينهار بمقاتلين يحرصون على استمرار بقائه في ظل معيقات وأزمات تحاصره، برأيك أنت وحسب تجربتك (…) في دهاليزه ما هي التحديات التي تواجه المسرح اليوم وما هي أوجه المقاربة والمفارقة بين مسرح اليوم والأمس؟
المسرح على مدى التاريخ كان طابورا خامسا بمعنى الوجه المكشوف لكل عيوب الحاكم والمحكوم والفعل المباشر الذي يعبر عن الظلم ويفضح ملامح الشر والابتذال في المجتمعات، وكونه يحرص على فعل المكاشفة واحتواء كل الفنون فوجوده يلزم القيمين على صناعة الدول من خلال فنونها، لأنه مظهر من مظاهر الحضارة ووسيلة لإيصال كل الآراء والأفكار الممكنة وغير الممكنة ويجد دائما من يدافع عنه ويحرص على بقائه رغم قوته التغييرية التي تؤرق الناهب والحاكم المتسلط والمنظومة الاحتكارية للخيرات. وهو المتنفس الوحيد للمثقف المناضل الراديكالي والمتغير. كان مسرح الأمس مسرح تجريب وبحث عن هوية له داخل مجتمع هو حديث بالنسبة لها. وبقي كذلك إلى حدود أواخر القرن العشرين حيث ركب موجة المسرح الموجه أو الشعبي ليتموقع داخل المقبول اليومي. وتبقى التجارب الجادة حبيسة منظومة سياسية محكمة ومهراجانات ومناسبات ولقاءات محدودة…كونها تجارب شبه نخبوية. أو تتلمس تموقعها في ساحة ملغومة بالتفاهة والحاجة للترفيه.
ماهو جديدك الفني مستقبلا؟
أعمل على إعداد عمل مسرحي جديد في انتظار انحسار هذه الجائحة التي كان لها الأثر السلبي على أداء الفنان بالخصوص وانسداد كل منافذ التنفس الإبداعي. كما ستصدر لي نصوص مسرحية ورواية جديدة وليدة الحجر الصحي.
في الختام، أترك لك الكلمة الأخير؟.
أقول شكرا لك.. وشكرا للقارئ.
حاورته: حسناء الفرجاني