محمد بلغازي التحق بالعمل الصحفي في سنة 1980 ضمن طاقم أول جريدة رياضية لصاحبها حسن الحراقي، لتتوالى المحطات متنقلا بين العديد من الجرائد خاصة المستقلة منها. ناهيك عن تجربة الدخول في مغامرة الإصدار من خلال جريدة «المحرر الساخر» وجريدة «المغرب الأخضر»…ليتوقف القطار بعدها عند آخر محطة وهي جريدة «الدومان» لصاحبها علي المرابط. من انشغالاته الفنية حبه لعمله بالمسرح من خلال تجربته الأولى في مسرح الهواة والتي تعود انطلاقتها في سنة 1972، ليتوج مساره الاحترافي في بداية الثمانينات ويظل شغفه بالمسرح متقدا، حيث تمكن من تأطير عدة محترفات جامعية للتكوين المسرحي والتي أثمرت بدورها مجموع من الأعمال المسرحية، منها على سبيل المثال: السكاتة، البتول، بغيت نكون وزير….لم يكتفي عند هذا الحد وإنما خاض تجربة كتابة السيناريو حيث يضل هذا الأخير بالنسبة إليه غير بعيد عن الكتابة المسرحية. لم تتوقف مواهب محمد بلغازي الإبداعية وإنما آمن بحلمه الطفولي الذي قاده بلا أدنى مقدمات إلى الانصهار الكلي في الإبداع التشكيلي، حيث اشتغل على مادة البوليسطير سنة 2004 لينجز مجسمات فنية رائعة تستمد عناصرها الجمالية من المحيط الجمالي للمدن والأماكن. عشق الشعر، فهو بالنسبة إليه كالصاعقة تصيبك في مقتل، فلم يجد بدا من أن يلبس ثوب الرحالة متتبعا فوح الكلام إلى فضائات وعوالم لاتحترم جغرافية الحدود ورسالتها تختزل الوطن بأكمله من خلال قصيدته «زغردي إن أنا عدت أماه…وزعردي إن أنا لم أعد»، والتي عبرت عن ملحمة المسيرة الخضراء لسنة 1975. بالإضافة الى عدة دواوين منها: رعشة القمر، الحرف29…ويرى هذا المبدع المتميز أنه لا يجب التعامل مع الثقافة والفكر والإبداع على أنه طابور خامس أو حزب سري. فالثقافة رافعة قوية للتنمية والإبداع يظل في الوجدان إلى ما لانهاية. ومعه أجرينا الحوار التالي:
تجربتك الفنية غنية ومتعددة. فأنت كاتب سيناريو وشاعر وفنان تشكيلي ومسرحي وخبرتك في العمل الصحفي تتجاوز عقدا من الزمن. في كل هذا الإبداع المختلف أين يجد محمد بلغازي نفسه أكثر؟
من الصعب جدا تحديد زمكان واحد قد أجد نفسي فيه، فحالات الإبداع متعددة ومختلفة الطقوس والذبذبات، ولكل حالة إبداعية هوسها وجنونها وظروفها أيضا…إلا أن للمسرح سطوته ونكهة لا تضاهيها نكهة، ربما لأنه يختزل زخما حياتيا مكدسا ومصغرا فوق ركح خشبي يستعرض الحزن والفرح وكل المتناقضات داخل النفس البشرية.
هل تعتقد أن الصحافة تندرج ضمن مسمى الهواية أو الموهبة؟
أعتقد أن الصحافة فن خارج كل المسارات الفنية المعروفة، وبالتالي يمكن اعتبارها فنا ثامنا محفوفا بالمخاطر ومحاطا بحقول الألغام…ولا يمكن تبخيس الصحافة بإدخالها في خانة الهواية وإن كانت الموهبة ضرورية لركوب الموج الصحفي.
كيف كانت بداياتك مع الصحافة؟. وما هي أول صحيفة ارتبطت بها مهنيا؟
البداية كانت شعرا أو ما كنت أعتقده شعرا أو خواطر فيها نفس شبه سياسي أواخر سنوات السبعينيات، وإن كانت أولى حروفي قد تضمنتها مجلة /الفنون/ التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة آنذاك سنة 1975، وكانت تلك الخواطر حول مشاركتي في ملحمة المسيرة الخضراء، لتتوالى المحاولات لتفتح جريدة الميثاق الوطني صفحاتها لخربشاتي فكانت الحضن الصحفي الأول والذي استدفأت بداخله العديد من الأسماء الصحفية والأدبية بدعم من الرواد: بوشعيب الضبار والمرحوم عبد السلام السفياني وآخرون تمرسنا على أيديهم ونهلنا من معينهم…وعند إطلالة بداية الثمانينيات كانت القفزة النوعية كتجربة أخرى في مساري الصحفي من خلال موقع مسؤولية ضمن طاقم أول جريدة رياضية متخصصة، فكانت جريدة الرياضة لصاحبها حسن الحراقي…ثم تتالت التجارب والمحطات إخفاقا ونجاحا متنقلا بين صفحات العديد من المنابر الصحفية، ناهيك عن الدخول في مغامرة الإصدار فكانت جريدة /كيخ كيخ/ منعطفا في زخم التجربة تلتها جريدة /المغرب الأخضر/ ليتوقف القطار عند محطة جريدة /دومان/ لصاحبها علي المرابط…
هل هناك قيود في العمل الصحفي؟ وما هو تقييمك لحرية الصحافة في الوقت الراهن؟
بالنسبة للقيود…أعتقد أن الحرية لابد أن ترتبط بالمسؤولية. وفي المسؤولية قيود لابد منها، لذا لا قيود واضحة على العمل الصحفي إلا ما كان من احترام للأخلاقيات العامة للمهنة والأعراف المتفق عليها، ناهيك عن احترام الاختلاف مهما كانت شروخه وهوته…وفي الوضع الصحفي الراهن من الصعب وضع تقييم عن حرية الصحافة فقد اختلط الحابل بالنابل لدرجة «على نفسها جنت براقش»…ولم يعد للحرية كما مارسناها أي مفهوم، وهذه خاصية عالمية نظرا لتعدد وتشابك وسائل ووسائط الاتصال، ومنها الصحافة وخاصة المكتوبة منها والتي تراجعت بشكل كبير.
تواجه الصحافة الورقية أزمة وجود على مستوى العالم. كثير من الصحف قررت إيقاف طباعة النسخ الورقية والاتجاه نحو المواقع الإلكترونية. فما رأيك في هذا؟
لكل زمان رجاله وأفكاره وانشغالاته وبالتالي صحافته…والتطور يقتضي كل هذه التغييرات على مستوى الشكل والمضمون والأبعاد…فقد بدأت الصحافة المكتوبة في العالم بتصفيف بدائي لمادة الرصاص المذاب لتشكيل حروف…وانتقلت الى وسائل إلكترونية أولية…/ الفوطو كومبوزيسيون/ ثم تطورت ما هو أرقى وأقدر على الوصول للمتلقي. وها هي الآن تخترق كل الحدود وتقتحم كل الذوات وتجتاح المجتمعات بملامسة زر صغير فقط…من هنا لا يمكن النظر إلى الأمر على أنه أزمة بقدر ما هو تطور قد تختلف بخصوصه الأجيال المتعاقبة على العمل الصحفي…وتبقى عملية ملامسة الورق _ جريدة أو كتاب _ لها وقعها ونكهتها وحميميتها في أوساط جيلي الصحفي.
لك تجربة مهمة في مجال كتابة السيناريو. تُرى من أين تستمد مواضيعك قوتها، هل من عمق الواقع أم من مساحات الخيال؟ وهل لمحيطك الاجتماعي والثقافي تأثيره الخاص في إبداعاتك؟
طبعا لكل عملية إبداع منطلق تحفيزي في الوسط الاجتماعي للمبدع أو داخل مخيلته، علما بأن المخيلة هي الأخرى تخضع لمعايير الواقع في مجملها…وتبقى كتابة السيناريو غير بعيدة عن كتابة المسرحية مع إضافات تقتضيها طبيعة الجنس الفني الذي نحن بصدده /السينما/…
هل ولجت مجال الفن التشكيلي عن طريق تكوين أكاديمي أم الموهبة؟ وما المدرسة الفنية التي تجد نفسك فيها أكثر؟
بالنسبة للفنون الجميلة، كلنا ومنذ الطفولة تشاغبنا مع وبأقلام الألوان وحلمنا بركوب قوس قزح، إلا أن الانصهار الكلي في الإبداع التشكيلي دونه العديد من المتطلبات الفنية والتقنية والتكوينية…ناهيك عن توفر الحس الإبداعي والجمالي…أما فيما يتعلق بي فقد اخترت الاشتغال ومنذ 2004 على مادة البوليسطير البلاستيكية لإنجاز مجسمات فنية تستمد عناصرها الجمالية من المحيط الجمالي لمدننا وشرفات المنازل والنوافذ والأبواب وغيرها مما يجسد معالم الجمال في ثقافتنا وحضارتنا، إضافة إلى عملية التحسيس بخطورة مادة البوليسطير على المحيط البيئي والفضاء الإيكولوجي.
متى ظهرت موهبتك الشعرية. وما هي أول قصيدة لك لازلت تحتفظ بحضورها الساحر في بهو الذاكرة؟
الشعر كالصاعقة قد تصيبك في مقتل أحيانا وقد أصابتني غير ما مرة…ولكن ليس في مقتل. ويمكن النظر إلى /القصيدة الخاطرة/ التي رافقت تغطية بسيطة لي لمجلة الفنون سنة 1975 خلال ملحمة المسيرة الخضراء كما أسلفت على أنها بداية وكان عنوانها : زغردي إن أنا عدت أماه ..وزغردي إن أنا لم أعد.
قمت بتأليف وإخراج العديد من المسرحيات. فما المسرحية الأقرب لقلبك؟
الإرهاصات عديدة ومتعددة والتجارب متنوعة منذ الملامح الأولى لمسرح الهواة الذي تلمسته بداية سنة 1972 مرورا عبر فضاءات أكثر شساعة للممارسة. بداية بمحترف نادي الأسرة بمسرح محمد الخامس أوائل الثمانينيات…وما تلا ذلك من محطات بين تشيخوف وموليير وشيكسبير ولعلج والصديقي وابسن وستانيسلافسكي وبيكيت…و…و…وصولا إلى تأطير محترفات جامعية للتكوين المسرحي ومنها محترف كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالرباط ومحترف المدرسة العليا للأساتذة ومحترف رودياس لحركة الطفولة الشعبية بالرباط أيضا…وكل هذه المحترفات أثمرت أعمالا مسرحية منها /السكاتة/ البتول _ أنتيكون/ بغيت نكون وزير والتي شاهدها السيد أمزازي بكلية العلوم قبل استوزاره/.
برأيك ما هي الإكراهات التي لازالت تواجه المسرح؟ وكيف يمكن تجازوها؟
الإكراهات متعددة والمجال هنا ليس مجالا لطرحها…والأمر برمته مرتبط برؤية الدولة لهذا الفن ومدى تفاعل أصحابه داخل رقعة الممارسة بعيدا عن التجاذبات النقابية والصراعات على الكراسي والامتيازات…فالبقاء هنا للأصلح…للعرض.
هل رؤية الصحفي للحياة في زمن كورونا تختلف عن رؤية الشاعر والمسرحي لها؟
زمن كورونا قلب العالم رأسا على عقب وأحدث تغييرات في السلوك وفي المفاهيم، ولكل جنس أدبي أو فني أو إعلامي رؤيته للأمر وزاويته التي منها يرى الوقائع.
أخيرا وليس آخرا ما هو تقييمك للميدان الفني والأدبي في المغرب؟
بالنسبة لتقييمي للميدان الفني والأدبي في المغرب أخشى أن نكون قد تعمقنا في التفاهة لدرجة استحالة العودة إلى شاطئ التأمل في الوضع. وخاصة في مجال الموسيقى والغناء…وغيرهما طبعا من مجالات الإبداع.
ختاما كلمة أخيرة لك.
بنظرة بانورامية على كل ما تضمنه هذا الحوار، أرجو ألا يكون تافها كالعديد مما يسمى إبداعا، مع الأمل في ألا يتم التعامل مع الثقافة والفكر والإبداع على أنهم طابور خامس أو حزب سري…فالثقافة رافعة قوية للتنمية والإبداع الحقيقي يستمر في الوجدان إلى ما لا نهاية...فشتان بين /القمر الأحمر مثلا وبين عندو الزين…/.وطورت علاقاتي. والأهم أنني تعلمت من النجوم الكبار المشاركين بهذه الأعمال الذين كانوا من جنسيات مختلفة كما ذكرت، وخبرتهم كانت تفوق خبرتي لأنني بطبيعتي دائماً أسعى لأتعلم من كل شخص ألتقي به على الصعيد المهني والشخصي. بالإضافة إلى انتشار الفنان أكثر وتوسيع دائرة جمهوره. وطبعا هذه الأعمال تتميز بجودة عالية كونها تجمع نجوم من كافة الجنسيات وانتشارها يكون أكبر.
حاورته: حسناء فرجاني