الجمعة , أبريل 26 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / مجتمع / تحقيقات / فقهاء يتاجرون بــ «الرقية الشرعية» ومرضى يعتقدون في الشفاء..

فقهاء يتاجرون بــ «الرقية الشرعية» ومرضى يعتقدون في الشفاء..

تجارة «ماء القرآن» طريق الغنى السريع

بعدما كانت لوجه الله أصبحت لوجه الدرهم، تجارة مربحة بآيات الله من أوسع الأبواب، تفرض على تجارها بأن يلبسوا رداء الدين ويرصعون كلامهم بأطيب الحديث بهدف استغلال كل جاهل أو مريض حملته الأقدار على اللقاء بهم.. فبعد أن كانت الرقية الشرعية عبارة عن آيات قرآنية وأدعية يرقي بها الشخص نفسه، أصبحت اليوم تجارة صرفة مهمتها إزالة العين والمس وعلاج أمراض نادرة وحالات استعصى على الطب تشخيصها. حتى لقيت إقبالا واسعا في صفوف المرضى الذين يبحثون وسط زوبعة الرقية عن وهم اسمه الشفاء، وما ترجم هاذا على أرض الواقع الأموال التي أصبح يجنيها الرقاة من مهنتهم التي ابتدعوها بعد أن جمعوا رأس مالها من قنينات الماء والزيوت والعسل التي يضعون فيها بركاتهم، لتباع بأثمنة مرتفعة بعد أن كانت لا تساوي شيئا.

  تأشيرات بالمجان؟!

كل يومي سبت وأحد يفتح الشيخ «أحمد» موظف في إحدى الشركات وراق شرعي، أبواب شقته بسيدي مومن لزواره المرضى نساء ورجال، يحملون في الصباح الباكر بين أيديهم قنينات الماء والزيت منتظرين وصول دورهم لأخذ بركة الشيخ.. بينما أفواههم تردد جملة «الله يجيب على يدو الشفاء». يلج الزبناء المنزل مع مراعاة عدم الاختلاط، بينما تتكلف ابنته بتنظيم الدخول وقبض ثمن «الفتوح» المحدد في 20 درهما، تستقبل زوجته الزبائن وتقوم بتنظيم جلسة الرقية الجماعية. ليترك الماء والزيت والعسل للراقي في ما بعد إلى أن ينفث ويقرا عليه ما شاء في وقت خلوته، ليعاد بيعه بثمن 50  إلى 200 درهم لكل قنينة كل حسب دائه وقدرته المادية..
بعد ثواني معدودة يظهر الشخص المقصود، رجل في الخمسينات من عمره بوجه قد خربه مرض الجدري، له شعيرات في ذقنه قليلة حمراء، جلبابه الأبيض النظيف يضفي عليه شكلا من الوقار والنعمة. يبدأ الجلسة مستهلا حديثه بتحية ودعاء للحاضرين ثم يقرأ بعدها آيات من الذكر الحكيم وينفث على الجميع بهدف تشخيص المرض والعلة التي يعاني منها كل شخص على حدة، فعند تثاؤب المريض أو بكائه يشخص الأمر على أنه عين أو حسد، أما في حالة التشنجات العضلية أو الصراخ والنطق بكلمات غريبة يعوز السبب إلى مس من الجن.
إلى حين الانتهاء من الجلسة يقوم شيخنا «الراقي» بعزل المريض «الممسوس» في غرفة أخرى، وبمساعدة ثلاثة أشخاص ممن جاءوا للاستشفاء يكبل كثور هائج يعد للذبح، وتقرأ عليه آيات لفك المس وطرد الجن يرددها الراقي بصوت مرتفع، وإن استعصى طرد الجني قد ينهال شيخنا على المريض بالضرب حتى يغمى عليه أحيانا.
سيعتبر البعض أن هذا الأمر مؤلم، لكن ما يزيد من الألم استغفال الحاضرين بأفكار لا يتقبلها العقل البشري، كإقناع الراقي الناس إرساله الجني الكافر إلى فلسطين أو سوريا للحرب، جزاء له على فعلته وتسلطه على مسلم من بني البشر، وكأنه قدم له تأشيرة بالمجان؟!

 من رقية «شرعية» إلى «ربحية»..

يقال بأن التجارة فن وحرفة، وأن علم التسويق يستلزم دراسة ومتابعة خاصة. هذا الذي لم ينساه الرقاة الشرعيون، حيث استطاعوا تطوير عملهم ضمن منافسات تجارية حادة، فأصبحت إعلاناتهم معلقة على السيارات وفي ملصقات الجدران كطريقة فعالة للتسويق، فيما عمد بعضهم إلى البيع في محال العطارة كمكان مناسب لتصريف بضاعتهم، بينما لجأ البعض الآخر إلى تخصيص منزله لبيع هذه المنتجات ليكون مشرفا عليها بنفسه وليقدم خدماته بطريقة مباشرة دون أن يحتاج إلى وسيط .
بطاقات التعريف «كارط فيزيت» التي تحمل اسم الراقي وعنوانه وتوزع في أبواب المساجد والأسواق تلعب هي الأخرى الدور الأهم في تسويق خدمات الرقية التي تشمل إزالة أنواع السحر والحسد والمس ،تزويج العوانس وتشغيل العاطلين عن العمل، نجاح الطلاب وحل الخلافات الزوجية، تيسير التجارة ثم علاج جميع الأمراض النفسية والعضوية والجنسية من عقم وشلل وكأن بيدهم طريق الخلاص من جميع المشاكل والأمراض. في زخم هذه السوق التجارية لكل داء ثمن لعلاجه، يبتدئ الأمر من 20 درهم ليصل إلى حدود 5000 درهم وأكثر أحيانا.
للتطور التكنولوجي نصيب أيضا مع «الرقية التجارية»، حيث احتلت الصفحات الفيسبوكية والمواقع الالكترونية موقعا هاما من التجارة، من خلال طرح حالات تماثلت للشفاء وإظهار البركات العلاجية للراقي، وقدرته على صرع الجن والتحاور معه. نذكر أيضا بعض القنوات الفضائية التي نهجت من هذه التجارة شعارا وعنوانا وكونت هالة من القداسة استطاعت من خلالها جذب العديد من الضحايا جنت منهم أمولا هائلة عبر الاتصالات الهاتفية من خلال سفرهم وبحثهم عن وهم الشفاء، وعودوتهم في معظم الأحيان وهم يجرون  ذيول الخيبة.

 إسلام «التمساح الإفريقي»

 لنقترب أكثر من أجواء الرقية، قررنا التوجه إلى رجل ذو باع وصيت في هذا المجال. عند الوصول إلى عين المكان سيرشدك الناس إلى منزل الراقي «أمين المقدوري»، أمام باب المنزل الصفيحي علقت لوحة حددت فيها أوقات الزيارة طيلة أيام الأسبوع عدى الجمعة، لعلاج جميع أنواع السحر والعين والمس، وفي الأسفل كتبت ملاحظة بالون الأحمر «الرقية للنساء فقط نظرا لابتلائهن بالأمراض أكثر من الرجال». بعد تنظيم الجلسة الجماعية يكتشف «الراق» إحدى الحالات المسكونة بالجن من خلال صراخها وتمزيقها لملابسها, يأمر بعدها مجموعة من الأخوات كما يسميهم، بإلباس المريضة اللباس الشرعي حتى لا يظهر أي جزء من جسمها.
يعد الحضور بأنه سيكشف الجن وهو يتلو عبارات بهمس يسمع منها جمل غريبة، «بالدماء نفثت وبتعطيل الزواج سفرت عاشق في الأرحام يسكن البيوت يسكن الإنسان», يخبر الحضور بعيون واثقة تعلو عليها ملامح الفخر، بأن المريضة تعاني من جن عاشق يدعى «التمساح» وهو إفريقي الأصل يسكنها  منذ عشر سنوات…  يستمر «الشيخ» في القراءة تارة بآيات قرآنية وتارة بجمل غريبة لا يستطيع الحضور فك رموزها، بينما تجلس المريضة وهي تحرك جسمها وتفرك كفيها بارتعاش، بعد برهة يفاجئ الجميع بصرخة مدوية يتغير فيها صوتها ويصبح خشن وتنهار بالبكاء وتصرخ: «نعم أنا الجن العاشق.. نعم أنا هو.. وأعلن إسلامي..», يفرح الراقي بإنجازه ويتباهى أمام الحضور بما حققته عزيمته، تتكلم السيدة بلسان الجني الإفريقي الملقب بالتمساح حسب قول الراقي وتعترف بالجرائم التي ارتكبها في حقها من أمراض عجز الطب عن شفائها وعن إصابتها بالعمى لفترات معينة ومنع الزواج عنها لمدة عشر سنوات، بعد الاعترافات يطلب الراقي من «التمساح» إعلان إسلامه مرة أخرى والنطق بالشهادتين، وتستجيب الفتاة لطلبه أو يستجيب الجني الذي يتكلم بصوتها، لترتسم ملامح الدهشة والذهول على وجوه الحاضرين الذين هرعوا إلى الشيخ يتسابقون لطلب حوائجهم وطرح أسئلتهم.

 رحلة البحث عن الشفاء

يتخذ الرقاة الشرعيون من قناعات الناس المتفاوتة بوجود السحر والمس وما يسببانه من أمراض جسدية ونفسية، لإقناع ضحاياهم بضرورة العلاج حتى لا تتفاقم الأمور. تختلف القصص التي يرويها أشخاص قاموا بالرقية الشرعية بعد أن عجز الطب عن تشخيص حالتهم، رغم قيامهم بالعديد من الفحوصات وصرفهم لمجلدات من الوصفات الطبية كانت ارحم من الابتزاز المادي والأخلاقي لبعض الرقاة حسب قولهم .
تحكي «أمينة»، 20 سنة عن تجربتها مع الرقية وعيونها تخاف الغرق في بحر البكاء المتواصل «بعد أن أصابني نوع من الشلل النصفي وعجز الطب عن إيجاد حل لي، نصحني البعض بالذهاب إلى راق شرعي عله يخفف بعضا مما أعانيه، وبالفعل قام الراقي بتشخيص حالتي وأكد أن الجن هو من يقف وراء شللي ثم أقنعني بضرورة إخراجه وطلب مني أجرة على عمله، مبالغ مكلفة ترتفع مع تكرر زيارتي له».
توقف الحديث لدقائق وتكمل بحرقة «استمررت على وضعي إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه التخلي عن هذه الرقية، حينما سولت له نفسه لمسي ومحاولة اغتصابي في الغرفة التي كان يدخلني إليها، مستغلا منعه للشخص الذي يرافقني من الدخول بحجة أن العلاج لن يتم بوجود طرف ثالث.
هددني حينها بأني إذا أخبرت أحدا عن فعلته سيسلط علي أتباعه من الجن لإصابتي بشلل كامل وما كان مني غير الصمت والصبر».
حالة أخرى بدايتها الرغبة في العلاج ونهايتها العذاب، الأمر يتعلق بالطفل «سعيد» 8 سنوات الذي لم تلتئم جراحه رغم مضي سنتين عن التجربة الأليمة التي عاشها, تحكي لنا أمه عن تجربته القاسية مع المرض تقول «بعد أن أصيب ابني سعيد بالعديد من الأمراض النفسية والجسدية وأصبحت تصرفاته غريبة، نصحني البعض بالتوجه إلى راق عله يخفف بعض من معاناته، ولم أعلم أن ذهابي عنده كان بداية العذاب الحقيقي، حيث كان يمارس «الشيخ» مختلف أنواع الضرب على ابني لدرجة أنه أغمي عليه مرارا وتكرارا، وعندما أحاول التدخل يرفض بشدة ويؤكد بأن الجني الساكن لجسد ابني سيزداد طغيانا في حالة توقف العلاج. استمر الحال على ذالك الوضع إلى أن كدت أن أفقد ابني ذات يوم عند وصول الأمر إلى حد القتل»..
اللافت في الأمر أن بعض المواطنين الذين يتعرضون إلى عمليات نصب من قبل هاته الفئة، لا يعترفون بذلك، معتبرين أن عدم الاستفادة من الجلسات العلاجية مدفوعة الأجر لا يعني تعرضهم لعملية نصب، بل أن العلاج من عدمه هو أمر مرتبط بيد الله فقط، فيما تؤكد فئة أخرى نجاح جلسات الرقية رغم المبالغ التي كانت تؤديها كضرائب..
من خلال تجربته الشخصية يؤكد لنا بإصرار «محمد الوليفي» معلم 35 سنة أن لتلك الجلسات وقع ايجابي واضح على تحسن صحة المريض يقول « بعدما كنت أعاني من اكتئاب حاد أوقفني عن العمل والاختلاط بالناس وأصبت على إثره ببعض الأمراض العضوية، استطعت من جديد أن أعود إلى سابق عهدي بعد الخضوع لجلسات من الرقية الشرعية وشرب الماء المقري عليه بصورة منتظمة».

 للرقاة رأيهم الخاص..

وحول الأثمنة المتفاوتة التي أصبح يحددها الرقاة لتقديم خدماتهم، يصرح لنا «محمد فاتح» راقي شرعي بأن الرقية لله، ومن أراد أن يعطي من مال الله فلما لا، ويعلل السبب بأن الراقي يتعرض للتهديد الدائم ولعدة مشاكل من طرف الجن الذي يصرعه، بالإضافة إلى المجهود الذي يبذله الراقي في محاولة علاج المريض كيفما كان نوعه، وعلى هذا فلا بأس بأخذ القارئ أجرا على الرقية إذا حصل بها شفاء وكانت موافقة للسنة النبوية، ويضيف فاتح بأن اللجوء إلى الضرب أمر لا مفر منه لطرد الجن من خلال استشهاده بحوادث وحالات عاشها هو نفسه.
أما بالنسبة للأفعال الغير أخلاقية لبعض الرقاة من نصب وتحرش يؤكد لنا «م . ن» راق آخر أن بعض المتطفلين والدجالين حولوا الرقية الشرعية المستنبطة من القرآن والسنة إلى نصب وأفعال محرمة كالرقية بغير كلام الله أو بمكبرات الصوت والخلوة بالنساء والتحرش بهن، والاستعانة بالجن في محاولة معرفة الأمور الغيبية، وكذلك تسليط الجن على بعض زبائنهم ليضمنوا ترددهم عليهم. فالرقية الشرعية الإسلامية لابد أن تكون على المريض مباشرة، لأن هذا يخالف ما فعله رسول الله.

رأي   الدين : الدين براء من تجارة الرقية الشرعية

الدين لا ينكر وجود الرقية الشرعية لكنه يقنن التعامل بها. فقلد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عالج العديد من الحالات بالقرآن الكريم وكذلك هو الشأن  بالنسبة إلى الصحابة الكرام لكون القرآن هو نور الله سبحانه وتعالى. ومن بركاته انه شفاء لما في الصدور لكن وبالرغم من ذالك، علمنا الله تعالى احترام التخصص العلمي في مجال الطب العضوي أو النفسي على أساس أن الخلط بين الأمراض النفسية والروحية والبيولوجية سينعكس سلبا على صحة الإنسان المريض. وقد باتت الرقية الشرعية تتعرض إلى موجة من التمييع لدرجة بتنا فيها نرى مجموعة من الفقهاء حولوها إلى وسيلة للاسترزاق المادي واستغلال ضعاف النفوس من المرضى لأن الأصل في الرقية الشرعية أنها علاج بالقرآن الكريم بمعنى أنه من شروط العلاج أن يكون مرتبطا بالصدق مع الله تعالى والإخلاص لله والطهارة والتعفف، أما وأن تتحول إلى وظيفة وتجارة باسم الدين، فهذه مصيبة تعكس عمق الانحطاط الأخلاقي والتخلف الذوقي، لذالك فالدين براء من تجارتهم لذا يجب عدم التسامح مع هذه الأشكال التي شوهت العلاج بالقرآن الكريم وأدخلته في مجال التجارة باسم الدين. وإذا كانت العقيدة قد بنيت على الاتصال المباشر مع الله تعالى لقوله سبحانه وتعالى «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب» فإن الإنسان مطالب بتعلم الرقية الشرعية دون أن يذهب عند أي فقيه مقابل الأموال الطائلة بحكم أن الإنسان المؤمن المعتقد في الله تعالى يجب أن يحصن نفسه بالقرآن الكريم والأدعية والذكر المأثور، إيمانا منه بأن المؤمن يأخذ القوة والإيمان والنصر من الله سبحانه وتعالى فقط.

د .أحمد البوكيلي : أستاذ متخصص في الدراسات الإسلامية

 رأي  علم الاجتماع

لا يمكن القول بأن الرقاة الذين يستخدمون القرآن في علاج أمراض عضوية أو نفسية كلهم يتلاعبون بعقول الناس أوان كلهم دجالين, بل علينا أن نبحث في البنية الثقافية للمجتمع بين الماضي والحاضر, فقديما لم يكن الطب متطورا.. حيث كان الفقيه يلعب دور الطبيب أو الاختصاصي في جهاز عضوي اليوم، لما كان يعرفه المجتمع آنذاك من ضعف في المستوى الثقافي والاجتماعي، فنتج عن ذلك العديد من الفقهاء الذين يدعون البركة ويمارسون مهنة العلاج في أماكن عامة، أو ما كان يسمى بالحمامات الجماعية التي كانوا يقرؤون فيها القرآن ويستحمون عراة بشكل جماعي، ولا ننسى المسح والنفث على أماكن المرض بدواء معين أو علاج محدد. وما كان على الناس في ذلك الوقت سوى الاستجابة إلى هذه الأمور في غياب التطور العلمي، لكن الآن وحاليا مع تطور الوضع وتقدم الطب، استغل البعض الوضع من مشعوذين وسحرة ليطوروا أعمالهم.. فاستخدموا القرآن ودعوا العلاج بالرقي مستغلين عجز الطب الحديث عن علاج بعض الأمراض واستغلال جهل الناس من خلال تصوير أنفسهم كملائكة، والمنقذ لمن  يحتاجهم, فيطلبون من المريض مبالغ مقابل تقديم العلاج والشفاء الذي يطمع له كل مريض.

ذ. علي شعباني: باحث في علم الاجتماع

عن adminOsra

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إلى الأعلى